بين يدي الكتاب ..
يختار مريد البرغوثي .. وبشكل مقصود معترفاً بذلك صراحة هذا العنوان الشيق ليثير في القارئ تساؤلاً يدفعه في النهاية لقراءة الصفحات المحشورة بين الغلاف ، وقد تحدث عن سبب اختيار هذا العنوان في موقعه الإلكتروني قائلاً :
" رأيت رام الله هو كتابة عمر كامل خارج المكان وكتابة المكان بعد القدرة على رؤيته مرة أخرى ، ولاحظى الأهمية للاسم رأيت رام الله وليس عدت الى رام الله ؛ لأن ما حدث أنه وجدت رام الله ما تزال رغم كل الحديث السياسى عن اتفاقيات وسلطة وطنية وانسحابات وسيادة ما زالت تحت الاحتلال بل فلسطين كلها تحت الاحتلال."
وللعنوان دلالة أخرى تحدثت عنها جيهان عبدالعزيز ( في الحياة والاغتراب في "رأيت رام الله" ) تقول فيها :
" يطالعني ذلك العنوان، فيثير في نفسي أفكاراً عديدة، خاصة ذلك الاختيار للكلمة المفتتح (رأيت)، كلمة تحمل في طياتها مزيجاً من مشاعر اللهفة والفرحة والشوق ، سُرعان ما تتحول إلى أسف وحزن وسخط واستنكار، مزيجا هائلا من المشاعر يعجز القلم عن تصويرها، جسدتها تلك الكلمة (رأيت)، خاصة حينما تكون تلك الكلمة (فعلا تحقق وقوعه) وحين يكون الفاعل ـ والذي رأى مرتين ـ هو (مريدُ البرغوثي) وحينما تكون تلك التي رآها هي (رام الله). "
وقد نتسائل .. لماذا قرر افتتاح سيرته الشخصية برام الله ؟
وهو سؤال وجيه خصوصا حين يناقش ربط الماضي ببقعة جغرافية محددة ، والأدهى أن تكون بعيدة عنه ثلاثين عاماً ..
أقول في ذلك ..
هو يختار رام الله ليبدأ وكأن عمره كله معركة لأجل الفوز بتلك الزيارة ، ليصل إليها ومنها يستطيع أن يلتقط أنفاسه ويسترد بعض روحه ليقص علينا حكايته .
وهي زيارة لها قدسيتها في نفس البرغوثي .. لارتباطها الوثيق بصورة " منيف " وهو يعود منكسرا منها بعد أن يأبى الاحتلال دخوله لفلسطين الوطن ، وهذا ما كان سببا – في رأي الكاتب – لأن يذبل ويموت بعدها بقيل في الغربة الموحشة .
" ها أنا أقف بقدمي على التراب .. منيف لم يصل إلى هذه النقطة . برودة تسري في عمودي الفقري . الشعور بالراحة ليس كاملاً . الشعور بالأسى ليس كاملاً " .
فمريد إذن ممتن للحظوظ التي سمحت له بالعودة ، ربما ليحقق وصية أخيه الذي أدمن ذكره في سيرته ، وكأن السيرة كلها تدور حول ثلاثة محاور : الغربة \ رام الله \ ومنيف .
منيف الذي كان حاضرا في كل خطا الكاتب ، هو وكل قوافل الموتى الذين عدهم مريد شهداء القضية وإن ماتوا وحدهم في أرصفة الغربة الباردة بلا أحباب يلقنونهم شهادة الوداع .
ألا وإن قارئ الكتاب يلاحظ بوضوح أسلوب البرغوثي الواقعي الصريح ، والذي يميل دائما إلى السخرية المرة من الوضع الفلسطيني القاسي ، خصوصا بعد الصدمة التي حدثت له حين أدرك أن كل العذابات التي ذاقها في ثلاثين عاما من الغربة والغياب لم تؤثر في رام الله .. فوحدها هي لم تكبر ولم تتطور .
وهذا ما أحزنه .. أحزنه أن تبقى كما كانت حين تركها قبل ثلاثين عاماً . فهي صدمة كبيرة .. أن يأتيها محملاً بكل أشواق الغربة الطويلة ثم يفاجأ أن لا شئ تغير على الساحة الفلسطينية ، منذ بداية الجسر الموجع حتى دير غسانة وهي تغفو تحت سدول التأخر والجهل .
و مريد كاتب ذكي ، يكتب سيرته بهدوء وسلاسة ثم يعلل كل الأفكار التي يبثها ليقنعك بها ، وهو لن يتنازل بسهولة عن أن تقبل بوحه بالشكل الذي يريده ، ولذلك فاضت سيرته بالتساؤلات التي يخاطب بها القارئ من حيث لا يدري ليضعه في مكانه كي يقتنع بلغة لا تملك أمامها سوى الموافقة .
" ما الذي يجعل فرحك يعتمد على المحاولة لا على التجلي ؟
ألأنك تعرف أن هناك شيئا غير مكتمل في المشهد كله ؟
شيئا ناقصا في الوعد ، وفي المتحقق من الوعد ؟
ألأنك مثقل ؟
ألأنك لم تألف الألفة بعد ؟ "
وإن قارئ السيرة لابد أن يتوصل إلى حقيقة أن مريد لا يصور فلسطين في سيرته رومانسية حالمة ، بل هو على النقيض تماماً واقعي جدا ، وكأنه يود صادقا أن يدفع فكرة أن هذه البقعة من الأرض مقدسة على أن تكون وطنا ، هو يحاول بكل طاقته أن يثبت إمكانية أن يعيش فيها أهلها بعيدا عن أضواء القداسة الحالمة . وهذا ما يعني أنها وطن لشعب له حق استردادها والقتال عليها .
يقول متحدثا عن القدس : "هذه القدس، هي قدس حواسنا وأجسامنا وطفولتنا، هي القدس التي نسير فيها غافلين عن قداستها، لأننا فيها، لأنها نحن" .
فهي قدس الناس والأشخاص التي تختلف تماما عن قدس العالم الذي لا يعرف من القدس سوى قبة الصخرة تحديداً "القدس الديانات، القدس السياسية، القدس الصراع هي قدس العالم" .
فالعالم لا يعني سوى ب (وضع) القدس، بالأسطورة، أما حياة الناس فيها فلا تعنيه، تلك الحياة التي أصبحت مهددة بالزوال.
وفي ذلك يقول :" أما حياتنا في القدس وقدس حياتنا ، فلا تعنيه . إن قدس السماء ستحيا دائما . أما حياتنا فيها فمهددة بالزوال " .
لكن العجيب أنه لم يذكر في أي من صفحات السيرة " وطني " ، " بلادي " أو أي شئ يشي بارتباطه الخاص بتلك البقعة ، فكثيرا ما أطلق عليها " الأرض الفلسطينية أو فلسطين " وكأنه يحاول إثبات فكرة أنها ليست قضيته وحده ، ليست مشكلته الشخصية ، يخشى لو كانت كذلك أو لو أعترف بذلك فلن يسمعه أحد .. لأنه غريب والغريب لا حرمة له . أو كما قال :" إرادتي أنا هي المعرضة دائما للانكسار".
أو ربما لأنه بعد ثلاثين عاما من الغياب قرر أن لا يرتبط بشكل حميمي بأي شئ حتى لو كان هذا الشئ وطنه .. أسرته أو حتى كتبه ، فهو يتجنب كثيرا مرارة الفقد التي خلفها رحيل منيف أخية الذي أدمن كل تفاصيله .
نلاحظ كذلك أن مريد البرغوثي يخلق لنفسه عالماً خاصا به يحميه من الخارج الذي لا يعرف عنه شيئا ، هذا العالم الذي يقيم جدرانه بالتأمل والانعزال النفسي ومحاولة كبح اندفاعاته الانفعالية في المواقف .
" وقفت أتأمل المشهد " ، و " لم يكن لدي ما أفعله سوى التأمل " ..
إذن يكفي أن يتأمل ، ويتأمل فقط ليصل إلى ما يطمأن ذاته دون الحاجة للتوغل النفسي أكثر في المشهد الذي أمامه ، وهذا يتجلى بوضوح حين يدفع عن ذاته احتمالية الانهيار والبكاء تحت أي ضغط كان .
وهو يصر على أنه لن يبكي ويكررها أكثر من مرة ، وحين يصر انسان على شئ كهذا أعلم أنه سينفجر .. سينفجر بكاء دون أن يرتاح :
" قال لي أصدقاء عبروا النهر بعد غيبة طويلة إنهم بكوا هنا . لم أبكِ . لم يصعد ذلك الخدر الخفيف من صدري إلى عيني"
و " لست جنديا منتصرا يقبل التراب . لم أقبل التراب . لم أكن حزينا لم أبكِ "
ويقول أيضا في ذلك :
" حتى في لحظة (الزيارة بعد مرور الزمن) التي تغري أعتى الواقعيين بالهيام في الغمام الرومانسي ، لم أجد دمعا أذرفه على ماضي دير غسانة ، ولا شوقا لاستعادتها على هيئة طفولتي فيها " .
وأنا لا أفهم حقا كيف يملك البرغوثي كل هذه القوة لأن يملك زمام قلبه في كل هذه المواقف الحاسمة ، حين يلج الجسر أول مرة بعد ثلاثين عاما من الغياب ، وحين يطأ تراب بلدته الصغيرة مع كل الزخم العاطفي الذي قد تتبناه لحظة كتلك .
بل إنه يحفظ نفسه من البكاء حتى في يوم وفاة " منيف " منيف الذي وصفه بأنه أجملهم وأغلاهم .. منيف الذي خلفه وحده في بقعة بعيدة جدا عن العين .. منيف الذي كان الأب والأخ والصديق ، رغم كل ذلك لم يبك يوم وفاته.
" كنت أتعامل مع المأساة تعاملاً غريباً . كأني رميت في زلزال وخرجت منه أبحث عن مصير أمي فيه . كأنني تمكنت من تنحية الخبر نفسه بعيدا عني بما يتيح لي القدرة على السيطرة على زمام الأمور .. لابد من أحد أن يسيطر على زمام الامور " .
إذن فهي مأساة تكسر كل الظهور الشامخة ، وقد تودي بقلب أمه إلى الصمت لكنه مع هذا الشخص الوحيد القادر على أن يتمالك نفسه ، حتى لو كانت هذه القوة القاهرة في يوم وفاة منيف .. وفاته وحيدا في غربة البرد بقسوة .
" لا أدري كيف تجنبت الإنهيار في تلك الدقائق ،ولأنني نجحت في تجنبه في تلك اللحظة تحديداً فإنني لم أعد معرضاً للانهيار بعدها " .
هو معترف بأن لحظة كتلك كفيلة بكسره .. وخلق حالة من الانهيار التي لا تحمد عقباها وأنه متعجب حتى اليوم من نفسه وقدرته على التماسك في ذلك اليوم الأسود .. لكن رغم كل شئ لم يبكِ ولن يفعلها أبدا .
.. للقراءة بقية