لا تضيقي أيتها الأرض..
حسين حبش*
* شاعر سوري مُقيم في ألمانيا
لا تضيقي أيتها الأرض،
لا تضيقي..
كي لا تخمد جمرات الأقدام في رعشة العصيان
والقلق ومزاياهما المتوثبة من فوق المعالم الرصينة
والمأهولة بالجمود والخوف وعظام الحكمة الثقيلة.
لا تَدَعَي البلادة تهيمن على ملكوت الخيال المرفرف
في جموح الصدفة ودهاء الفتنة
ومهاوي الإعجاز.
لا تصمتي كي لا يذوب الطوفان ويطغى
بوحوله الضارية على الأجرام الضالة
في محراب النفس وفي العيون
المُرصَّعة بسحر الرعشات الدفينة في أعماق الروح.
لا تؤكدي شيئاً لسبايا البطش وقرونها الرجيمة
ولا توقفي إيغال الهياكل في التآمر
على عتمة القبور والمهالك.
لا تتوكلي على أحدٍ، على ولائم مشرفة
على الخسوف والابتذال،
لا تسندي رغباتك على أجساد خراف
تودُّ أن تصوغ من صوفها مقترحات لأجساد الطغاة.
لا تفشي سر وجودك،
سر مفاتيحك..
مفاتيح حصونك،
لكن دعي الأبواب مواربة لشهوات الريح وخلجات الشهقة
وهواء عشاق لا يسدلون ظلَّ الحسرة على اندلاع الشياطين
المتوفزة من تحت آباطهم في سكرات الحب ومسرات الشغف.
لا تحزني لأنك أمُّ الدهشة، تراوغك بشائر الماء
وتغويك المباهج وتشتعل بك الأيائل الضالعة في اللهب والفداحة.
تواصلي مع المزامير في سعيها الرهيف
لإيقاد زمرد العشق على ثغور تتراقص هفهافة
وتنشد مزيداً من الرنين الذي يشدُّ دبيب الظن
إلى قوس الأفق والسماوات المستلقية بأمان على فم القصب.
لا تيأسي..
ها هي الأعجوبة تواكب قراءة طالعك وتستفتي لقلبك حدوس الأشجار
ثم تسمي لرأسك قبعة من الهندباء ورتلاً من السحب النحيلة
التي تنزل الهوينى إلى خضم أعماقك المتموجة
والمتوجة بكل الاحتمالات..
لا تيأسي..
ها هي الأكاليل تكلل جياشنك باليسر والهدوء،
والحظوظ تهدهد رقدتك الممددة على بساط الأزل.
لا تيأسي...
انهضي،
فتماثيلك قد بلغت سن الرشد وحقيبتك امتلأت بترياق اللوعة
والشجن.
انهضي،
فالملكات يتقدمن وفي يدهن بخور لرأسك المبارك
وفي قلوبهن سطوع الحدائق..
ا
ن
هـ
ض
ي...
لا تتلجلجي فإنّ ضيوفك الغائبين ينبجسون من تضاريس المهابة،
يرتبون لك مزاج اللوعة ويرفدون دماثتك بالمثل الطيبة
ثم يوقدون أمامك الشجاعة بحفاوة تترنم
ببزوغ موغلٍ في مدارات لا يطالها الغبار
ولا هواء المراثي.
* * *
لا تضيقي..
كي لا تذرف السماء على الكُرد إلا المطر السابق لعداوته
و قليلاً من مغفرة الله الذي يختفي في سماواته السبع
كلما هبّت القيامة على أنفاسهم وعيونهم الشاخصة دائماً
إلى محبته ورضاه!
تعالي فإن مآل الخرائط الآن بين يدي الدسيسة
ومركونة تحت حدوات الخيول
والبوصلات تحملق في الجهات المشرفة على بلوغ الانتحار
أو هيمنة الذبول فوق قشرة الكون
الذي ينتظر العلاج في أقصى حالات العناية..
تعالي،
افسحي الطريق للجنادب، للضوء..
وفلول الرجال الآتين من مكائد الصمت والأغلال،
الرجال الذين يمزقون الآن بضراوة فهارس القهر
ونير السنوات الحدباء.
تعالي،
اجمعي شمل الزنابق وانفخي في ذيول العصافير لذة الطيران
قبل فوات الرغبات وانطلاق أعنة الخراب والدمار.
تعالي،
بللي براءة الأطفال برائحة الحليب والسُكَّر قبل أن تقترب الصاعقة
وتنشر ضحكات الموت الفاحشة على مأثرة الحياة...
* * *
لا تضيقي..
كي تتفتح قرائح الأشجار
وتهمّ بارزة في حضور خاطف على صدغ الأمكنة،
تختم تجوالها على بهارج الأزمنة اللامبالية
والمزركشة بالألوان الفاقعة،
مشكلة من براعمها تويجات فارعة في قلب
الذاكرة المزدهرة بالانحناء والميلان
وما تحتاجه من قدر يمور بالبلاغة
والغرائب التي لا تنام.
لا تمدي بساط العجز أمام المهالك الرهيبة ولا تركعي للغوغاء..
لا تركني وجعك على المآزق المبحوحة
والرفوف التي يعلوها صمت المكنسة
لا تقولي أفٍّ لبارقة الأمل ولا توقعي على صكوك النأي.
لأنك... وحدك تعلمين بسرِّ الغليان،
وحدك تفيضين بالزحام،
ووحدك تنبضين بصهيل الأرواح
وتصوغين لغات العصافير في الأغاني.
تقدمي فإن المزامير ترتكب نواياها الجميلة
وتسعى إلى رهافة الكائنات.
لا تخوم تحدُّ وهج قرابينها
ولا هوام يوقف اشتياق السحب
في أناشيدها الماطرة ودموعها المتألقة.
* * *
شهداء..
شهداء من برلين... إلى إربيل
إلى...
ش
هـ
د
ا
ء
رغم ذلك لا تضيقي أيتها الأرض..
لا تضييييييييييقي...