حبيب حبيب يكتب ..... رائحة النعنع

[محمود سليمان]

حبيب حبيب يكتب .........

رائحة النعنع لاتعترف بحدود

ككل مراهق فتي كنت أستفيق صباحاً بعد سهر طويل مع رفاق العمر وتوائم الروح وأصدقاء الحياة ، حياة المراهقين الذين ينامون على حلم ويفيقون على آخر ومن دون عناء ولاغوص في كيفية العيش واستمراره ، بعد سهر وحديث عن الأغاني والمطربين وعن طيارينا وعدوّة وجودنا اسرائيل وأحلام الشباب المندفع والثائر للتغيير،
وعن كل جميل في هذه الدنيا ، ومع الأصوات العالية والقهقهات وصوت المسجل العالي ولعب الورق والنقاشات التائهة ..
كنت في الصباح أخرج إلى الدار سطح البيت القديم أمام بيتنا الذي أصبح قديماً الآن ، ببنطال بيجامتي وقميصي الداخلي لأتباهى بعضلاتي المفتولة نتيجة الرياضة ورفع الاثقال التي كنا نصنعها بيدنا .
أجلس على فوهة البئر ( الجبّ ) لأشرب فنجان قهوتي مع صوت فيروز ، متوهما ًأن الدنيا لي ولحلمي فقط .. لايزاحمني في سكونها سوى صوت عصفور أو حفيف أوراق عريشة العنب ونسمة هواء شرقي جافة ..
لأسمع صوت الماء يشق السكون و يتناثر على ورود جارنا الكثيفة ، لتعبق رائحة العطر والورد الجوري وأسمع صوت جارنا يرندح همساً باتقان جميل ، نغمات صباحية تتوالف مع رذاذ الماء وتفتح الزهر .
جارنا كان يعشق الصبح ولايزعجه ، أرفع عيني البليدتين من طول السهر لتتلاقى مع عيون جاري الحنونة الدافئة الثاقبة الذكية ..

صباح الخير ياحبيب
بخجل : أهلاً أستاذ
ماأجمل هذه الكلمة وكم هي محببة لكل طالب أحبّ استاذه ... ليس فيها شعور بالدونية ولا بالتعالي .. بل فيها النبل وكل المعاني الجميلة .
صباح النور يااستاذ ( حليم ) يامعلم وياجار .. صباح العنفوان ..
طلتك تعبر من بين أوراق الورد والنعنع ياشبيه الصبح ياأبا الرجولة ، أيها الباسم الأشقر وصاحب النظرات الواثقة الخضراء المليئة بالحنان والقوة والأبوة ..

* رحلت باكراً .. ومنذ زمن وإلى الآن كلما أرفع رأسي إلى ورداتك أراك ..
أرى الصورة المرسومة بخطوط الوجدان على صفيحات دمي وعلى صفحتي عيوني الماطرة .
كان استاذي وجاري ...
وكنت كل يوم أرفع رأسي كما علمني .. (خلي راسك مرفوع ) .. لأرى استاذي فوق ، أتمنى أن يأتي المساء سريعاً ليدعوني لتسلق قمته .
كان يقول لي اصعد ولاتأبه .. (طلاع ) .. أتسلّق الحدود بين بيته وبيتنا
والتي ضيّعت معالمها الورود وشجرة الرمان والليمون ( ورائحة النعنع التي لاتعترف بحدود ) ، وإلى الآن لاحدود وإنّما .. ( الحيط على الحيط ) ..

كنت أتسلق لأقطف من شجرته ولسانه أجمل الكلام وأعذب مانُطق وقيل في اللغة العربية .
كان رجل اللغة ولسانها ،عذباً لدرجة اختصارها بالآه ..وكنت أعتقد أنّ الآه لاتستطيع أن تثقب البولاد .
كان إذا تكلم نتمنى أن لايسكت .. شيّق مشوّق هادئ أحيانا .. تارةً ًتعلونبرة صوته الدافئ وتارةً تنخفض ليعود ويشغلك بالانصات جيدا .. كقرار وجواب موسيقيين ظريفين ، لاتستطيع أن تشرد عن مايقول ، بمقدرته يُحببك بكل كلمة يقولها وبكل فكرة يشرحها .
أما الشعر فكان يمرُّ عبره ومن قلبه ، فثقافته وذاكرته مطواعين لننهل منهما أي قصيدة للمتنبي أو أبو العلاء أو أحمد شوقي أورواية لنجيب محفوظ أو جرجي زيدان أو ... كل ماحوى أدبه وأدبنا العربي من كنوز. كان دفِقاً في الشعر ولكن ... مثل الكثيرين ضاعت أوراقه وأشعاره ووجدانياته بين الجرائد والمجلات وعلى الأرفف والعليات .
أما في الموسيقا فقد حفظنا منه أسماء المقامات فكان ذواقاً وعارفاً بجملها وبألحانها ، وبقرار المقطع وجوابه ، فضلاً عن أنه لاعب ريشة جيد على العود .
صباح الخير يا ( مدير) كلمة صغيرة عن ادارتك ... عرفنا منك أن الابرة لها صوت عندما تسقط على الأرض .. وصوتها له وقت يجب أن نصنعه والموسيقا لها وقت .. اسمعتنا صوت الابرة ، فعَلا صوت العلم والفن وأزغفت الصفوف شعراء ومطربين وأطباء ومهندسين ومعلمين ..

كان المشاغبون يخافونه وأنا كنت أرى قلبه الأبيض ككأسه .. كان يخلق البياض من مجموع الألوان .
أذكره وهو يلعن الزمن الذي رأى فيه تلك المذيعة الجميلة تدخل بيوتنا وتسمع آذان أطفالنا لغتها المكسرة وتلعثم لسانها .
ملك الكثير الكثير من الصلابة والليونة والعنفوان ، ولكن عندما ملك بيتاً دُهم بأخطائه القليلة وأولها ( امتلاك بيت ) ...
الآن بعدما ودعت مراهقتي وسعيت كثيرا لامتلاك بيت عرفت خطيئة الذي يمتلك بيتاً في وطنه . . . فثقافة امتلاك البيوت هي السفر خارج الوطن .
كان حنوناً على طلابه وعلى بيته وعلى سياج جاره وماوراءه .. كان يسقي وردات جاره قبل ورداته .
وكان مصرّاً على أن لايرتفع السياج .
لن أحظى بجلسة كجلساته ... حتى مع أي كتاب جميل فكان عندما يشرح كتابا أو فكرة يصبحان أجمل ...
رحل جاري صاحياً .. لتفاجئنا الصحوة .
صحيح أن الكبار يرحلون باكراً وفي غفلة من أحبائهم .. كنت أراه كبيراً ومقبل على النيا يحببك بكل شيء فيها ، ولاأشعر بعذاباته من الداخل .

اعذرني يااستاذي لأنك كنت تبعدني بروحك الظريفة عن مشاهدتها .. ربما كانت إحدى الخصال التي أحببتها فيك من دون أن أدري .
كان زمانك زمن خوف الطالب من استاذه ، لكنك كنت صديقا ... كنا نفرح عندما نراك ونجالسك ونرقب خطواتك الواثقة ورجليك التي تزرعها في الأرض لتهتز تحتها ، حاولنا أن نقلّدك في كل شيء لكن مواهب الله لاتكتسب من الأشخاص ولاتُقلَّد .

استاذي وصديقي وجاري رحمك الله ، وعلى طريقة ( كاسك ياوطن ) أخبرك بأن اللغة التي حفر أمثالك بها وجداناً جميلاً في وجداننا . بدأنا منذ رحيلك نترّحم عليها ، وهي الآن في نهاية احتضارها ... ولكن لجبروتها فقد طال يومها الأخير .. متعلقة بالبعض منّا ، ولكن أيضاً أنتم الذين علمونا ( لغة ) .. فهل هناك من معلّمين ...


حبيب حبيب ،،،،،،،،،، مرمريتا ضيعتنا

[زينة]

اخي

محمود سلمان..





اعتقد ان ااستاذك من الذين يجب ان نرفع لهم القبعة ..

ونبقيهم في تاريخنا .. حتى نتذكر منهم كل مرة جملة او لحظة تعيدنا الى ذكريات رائعة وجميلة.


تحية الى روحك.

ســـلامي


..زينة...

[تأبط حرفا]

محمود سليمان

أسلوبك جميل و مبكي

لدرجة أنني شعرت بقيمة

الفقد التي تعتريك الآن

مشكلة أن المخلصين

قليل في هذا الزمن

فلذلك يكون لهم مزية و خاصية

عن غيرهم

أقولها معك

رحمه الله و أسكنه فسيح جناته

دمت بخير

[ميّادة زعزوع]

دمعة تبتسم / مرّت من هنا
لا تسكن في الغياب يا محمود !