..
..
قارب الميذوز
/
\
صوت أخير :
هنا التاريخ يتكوّن من جديد ..
يرسم للبدايات .. نهاياتٍ غائمة ..
و يبعثر الأحلام في جيوب الزمن ..
الطرق لم تعد تفضي إلى روما ..
و هدير الجماهير هجر المدرّج الكبير ، تاركا له الصمت ، و ريحا تعوي في أروقته ..
في عمق هذا (الأطلسي) ، تستقر أوديسة محفوظة بالملح و الظلمة ، لا أحد غير هذا الماء .. و الشمس التي تشتعل على وجهه يذكر الحكاية ..
و أنا المدجج بتفاصيل لم تبرح أماكنها الأمامية في مقاعد الذاكرة ..
منذ ستون عاما ، و البواخر لا تعبر هذا الشاطئ ..
تطلّ بأشرعتها من الأفق البعيد ، ثم تغيب في ضباب كثيف ..
و منذ ستون سنة ، و أنا أنتظر الرجوع ..
و (جَنَوى) .. لا تعود ..
تحاصرني برائحة بحرها ، بمينائها القذر .. بصناديق تستقر على ظهور مراكبها و تغادر إلى أراض بعيدة .. و بلدان تصنع الموت ..
(كرستيان) يغني بصوته الأجش ، و ما حولي سوى مساحة زرقاء كالمستحيل ، تتكسر على أقدام الصخر ..
يصرخ بي القبطان لأن أربط الأمتعة و أحملها إلى السفن ، رغم غرقها ..
و نسوة كثيرات يلوّحن بمناديلهن ، و المسافرون ليسوا إلا نوارس تملأ الفضاء بالصخب ..
ما من أحد هنا سواي يا (مانويلا) .. في الأرض الموعودة .. أرض الأحلام .. أنتِ التي أوصلتِني ، ثم تركتيني نهبا للشوارع الخلفية الحقيرة ، و للغربة ..
كل الذين تبقوا ، تلقفتهم الحياة .. مبقية لي فتاتهم لأقتات عليه ..
بالأمس ذهبتُ إلى (فيلبو) ، صديقنا الذي أعطيتِه كسرة الخبز خاصتك ، رغم الجوع و الموت الذيْن كانا يتربصان بكِ .. - بالمناسبة ، أصبح اسمه (فيلب) بعد أن امتلك نصيبا كبيرا من أسهم شركة لتأجير اليخوت - كان لطيفا معي ، لكن يبدو أني ساهمت في تعطل بعض مصالحه ، فآثرتُ أن أخرج أثناء مخابرة كان يجريها بواسطة هاتفه الذي لم يهدأ ..
سمعتُ أيضا أن (ماسيمو غوستيني) قد قام ببطولة فيلم جديد ، و دور السينما ما فتئت تعرض فيلمه السابق باستمرار ؛ مازال يحتفظ بوسامته .. و يكتبون كثيرا عن قفشاته ، رغم ذلك تبدو لي باهتة ليست كالتي كان يقولها و نحن في بحر الظلمات ..
لا أذكر أسماء الثلاثة الباقين .. و ما أظنكِ تأبهين ..
* * *
صوت محايد :
أخذ الليل يقتحم الأكواخ بالبرد القارس .. و المواقد لم تعد تبث الدفء ..
ظل شاحب وحيد ، يعبر الطريق ، و يتلمس الجدران المنهكة ..
ثم يختفي وراء زاوية بعيدة ..
- مانويلا ؟! عدتِ مبكرا ..
- تسللتُ من الباب الخلفي على حين غفلة من الحارس .. كيف هي الأخبار القادمة من روما ؟
- " أيها الشعب الإيطالي العظيم .. إن تاريخ إيطاليا يتوقف عليكم الآن .. أنتم الذين ستعيدون مجد روما " ..
قالها ساخرا ، و مقلدا صوت المذيع الذي سمعه من مذياع معلق في حانة الميناء .. و أردف :
- فليذهب مجد روما ، و ليبق مجد اليوفي !
- تجنيد إجباري ؟!!
- سيجندون الذين يعنيهم مجد روما ..!
- و أنت ؟
- أنا أشجع اليوفنتوس !
المدينة الغافية على حافة البحر ، استيقظت فجأة ؛ لتمتلئ مصانعها بعاملات صغيرات مكرّسات للموت ؛ و تتكدس السفن بالأسلحة ، بأوهام النصر ، بأحلام الصغار ، و صلوات الأمهات ، بمجرمين فاضت السجون بهم ، فألفوا أنفسهم جنودا يحمون الوطن .. ثم تمخر الماء باتجاه ثقب أسود يستوطن الأفق ..
غدا الميناء محطة لمسافرين يغادرونه ثم لا يعودون أبدا !
وحده (فرانشيسكو) الذي لم يقف بعد في الميناء ليودع أحدا ، أو لتحمله أحد المراكب إلى أرض مجهولة .. و أعداء لم يقررهم هو ..
- هيه مانويلا ..! قلتِ بأنكِ لم تجدي فحما إذن؟ ربما أخذوه إلى برلين .. سيحتاجه هتلر ليعيد لهم أمجاد روما .. أما شعب روما فيمكنهم أن يفركوا أيديهم قليلا ، و يناموا بمعاطفهم .. و أن يغلقوا نوافذهم جيدا .. ليحصلوا على الدفء .. و على أحلام لا تكلفهم كثيرا من التحسر ! .. نامي مانويلا .. نامي يا ابنتي ، سنقضي ليلة أخرى في بطن الوحش . نسيت ! .. دانيال أخبرني عن شاب يعمل في الميناء ، قدِم من نابولي الشهر الماضي .. يدّعي أنه أفضل من يطبخ المكرونة ! أخيرا سأتذوق الاسبغاتي ..!
* * *
الشمس الواهنة ، غمرت الطرق بغبش من نور خفيف .. و الضباب ما غادر المرافئ بعد ..
لم ينم الميناء منذ أن رست الباخرة الضخمة بـ حذاء الجرف ..
أوامر القباطنة ، القصيرة و الحادة ، استنفرت جميع الموجودين ، عدا عاملا انتبذ مكانا قصيا ، متسليا بتقليم عصا خشبية بنصل صغير ..
- انطونيو !
سقط النصل من يده ، على أثر الصوت الأجش الذي ناداه ..
- أوه ! .. كرستيان ! .. كنتُ أنتظر من يساعدني في حمل الصندوق ، يبدو أن السماء أرسلتك !
شيء من دفء ، سربته الخيوط الواهية التي أفلتت من قبضة السحاب المركوم ، فارتفع صوت كرستيان مغنيا ..
- هيه كرستيان ! .. صوتك سيتسبب في فصلنا !!
- لِم لا يتسبب في ترقيتك ؟!
- لأن القيادة ستظن أنها مروحية للحلفاء .. !
ثلاث سنوات ، و ثمة حلم تنهش من أطرافه ، الحرب ..
في كل يوم ، يذوي أمل في قلب ما .. بينما يشي الأفق بسواد حالك ..
وهج يخفت .. و طيورا تغادر باتجاه اللاعودة ..
في المساء ..امتصت الدروب العمال المنهوكين بالسهر و الأمنيات المبتورة ، بعد أن توارت الباخرة في الحجاب ؛ فخوى الميناء إلا قليلا ..
* * *
صوت محفوف بالتيه :
الساعة التي احتوت رحيله ، كانت تحمل العدد صفرا ..
أيامي التي قبلها .. تُحسب بالموجب ، و ما بعد سفره .. تحمل الإشارة السالبة ..
كل الذين رحل بعدهم ، لم يجدهم ساعي البريد ليحمل إليهم أمنيات الأبناء ، و أشواق الزوجات .. لذا أعلنتُ الحداد عليه مذ تلاشت النفثة الأخيرة لمدخنة القطار ..
فجأة وجدتُ نفسي في التيه .. على شفا ضياع .. و بلا أبي !
كل الشوارع حملت ذات العلامات ، و كل الوجوه لبست نفس الملامح ..
بعد استدعائه للتجنيد ، باع كل شيء يخصه ، و سلمني الثمن ..
- ستساعدك .. يا مانويلا ..
ما عدا قميص اليوفنتوس ..
- ثمة أشياء تستحق البقاء يا أبي .. اتركه لي ..
في محطة القطار ، كان يضحك بصوت عال ، ليكتم بكاءً تفجر داخله ..
- هيه مانويلا .. في الوقت متسع للضحك .. و الحياة ما زالت تكفي للغناء .. و الرقص أيضا ! .. أخبري انطونيو أن يجهز الاسبغاتي لي ، لأني سأعود قريبا ..
بعد الصافرة الثالثة للقطار ، ماجت في عينيّ الصور.. لم أعد أرى إلا أطياف هلامية .. و ما عدت أسمع إلا أصوات عويل .. و نشيج بعيد ..
لا أذكر كم من العمر مضى ، لكن يبدو أن زمنا طويلا اجتازني قبل أن ينبهني عامل صغير إلى أن وقت إغلاق المحطة قد أزِف ..
برد ديسمبر ، و كتلة السديم الهائلة الذيْن اعترضا خروجي من المحطة ، أخطراني بأن عليّ أن أبحث عن أفق جديد أعتمده مشرقا لشمسي المُنهكة ..
* * *
احتفظت بالرسائل التي شرعت بكتابتها لأبي كل فجر ، في كيس قماشيّ ، لم أكن أعلم كم عددها ، كنتُ أتحاشى الزمن و التاريخ .. و أنام دون أن أنتظر الغد المفرغ من الآمال ..
- مائتين و ثلاثون رسالة ؟!! من سيحملها إلى فرانشيسكو يا مانويلا ؟!!
- لا أحد ..
- إذن لِم تحتفظين بها ؟
- قد يعود يوما .. فيجدها ..
كنتُ موقنة أنه لن يعود ، رغم أن انطونيو يحاول منحي قليلا من شمس في ظلمتي المستعرة ، برواية قصص عن سفن رست بالميناء مؤخرا ، محمّلة بآلاف الجنود الذين عادوا ، كنت أعلم أنه يختلقها .. و أن ما من سفن في الميناء ، سوى تلك المغادِرَة .. أما السفن القادمة ، فلم تكن تأتي أبدا ..
- مانويلا .. سيأتي .. أنا متأكد من ذلك .. ستنتهي الحرب قريبا ، هكذا سمعتُ اليوم .. فرانشيسكو يحب الحياة ، و يحبك .. و حتى لو لم يكن يحبك .. فهو لن يموت .. لأن اليوفي يتصدر فرق الدوري .. صلّي من أجل بقائه .. و لا تبكي .. أرجوكِ لا تفعلي ذلك ..! و بمناسبة ربحي خمس سنتات إضافية اليوم ، سأشتري لحما ، لأطبخ (لازانيا) .. سنعيش إحساس المترفين اليوم ..!
ابتسمتُ دون أن أدرك تماما ما الذي يقوله .
* * *
يتبع